أفول النفوذ الفرنسي أفريقياً.. هل يعيد صياغة ترتيبات القوى في القارة السمراء؟
كريترنيوز /متابعات /البيان/القاهرة
يشكل انسحاب المقاتلات الفرنسية من القواعد العسكرية في تشاد، أحدث فصول التراجع المتسارع للدور الفرنسي في القارة الأفريقية. إعلان إنجامينا إنهاء اتفاق دفاعي مع باريس، والذي امتد منذ استقلال تشاد في 1960، يعكس تحولاً جذرياً في علاقة فرنسا بمستعمراتها السابقة، التي أصبحت تتحدى النفوذ الفرنسي علانية، مدفوعة بتحولات داخلية، وتحالفات دولية جديدة.
هذا الانسحاب يبرز كجزء من سلسلة انتكاسات، تلقتها باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، حيث اضطرت في الأعوام الأخيرة إلى مغادرة مالي وبوركينا فاسو والنيجر. بينما العامل المشترك في هذه الحالات، كان صعود أنظمة عسكرية تربطها علاقات متنامية مع روسيا، على سبيل المثال، أو اتفاقيات تعاون عسكري.
تقوض هذه التحولات مكانة فرنسا كحليف أمني تقليدي، وسلطت الضوء على عجزها عن إعادة تعريف دورها، بما يتماشى مع تطلعات الشعوب والنخب الحاكمة في تلك الدول.
سوء تقدير
من باريس، يقول الكاتب والمحلل السياسي نزار الجليدي، في تصريحات لـ «البيان»، إن فرنسا فقدت قدرتها على الحفاظ على نفوذها التقليدي في أفريقيا، بسبب سوء التقدير الاستراتيجي، مُحدداً ثلاثة عوامل رئيسة، دفعت البلد الأوروبي إلى الانسحاب من القارة السمراء، في مقدمها «سوء تقدير الرئيس إيمانويل ماكرون»، والذي لم يدرك أهمية التحولات الجيوسياسية، سواء في شرق المتوسط أو في أفريقيا، ولم يعِ أن القارة تشهد تحولات كبرى، تنبع من مطالب الشعوب بالاستقلال الاقتصادي والسياسي.
ثاني تلك العوامل، ما يتعلق بـ «البدائل الدولية»، ذلك أن هناك قوى دولية أخرى، مثل روسيا والصين، قد ملأت الفراغ الذي تركته فرنسا، بينما تكتفي الولايات المتحدة بالمراقبة من موقع القواعد العسكرية. وثالث العوامل، يرتبط بـ «الأزمة الداخلية في باريس»، على اعتبار أن ضعف الحكومة الفرنسية داخلياً، سواء برلمانياً أو على مستوى الأحزاب، يجعلها عاجزة عن استعادة دورها التقليدي في الساحة الدولية.
تحليل الجليدي يعكس رؤية تشير إلى أن «سياسات الحقبة الاستعمارية لم تعد صالحة كأساس للعلاقات الدولية، وأن التحولات العالمية، جعلت من القارة الأفريقية ساحة مفتوحة للتنافس بين القوى الكبرى ».
معضلة استراتيجية
وباتت فرنسا اليوم تواجه معضلة استراتيجية، تتجاوز خسارة القواعد العسكرية، إذ إن أفول نفوذها يعيد صياغة ترتيبات القوى في القارة، ذلك أن صعود قوى بديلة، مثل روسيا والصين، وتنامي الخطاب المعادي للوجود الفرنسي، يعيدان تشكيل التحالفات الجيوسياسية.
في هذا السياق، تبدو فرنسا مطالبة بمراجعة سياساتها الأفريقية، ليس فقط على المستوى العسكري، بل أيضاً في أبعادها الاقتصادية والدبلوماسية، لتجنب عزلة دائمة، في واحدة من أهم مناطق نفوذها التاريخية.
من باريس، يشير الكاتب والمحلل السياسي عبد الغني العيادي، في تصريحات لـ «البيان»، إلى أن تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، والذي يتجلى في انسحاب القوات الفرنسية من دول مثل تشاد ومالي، يحمل تداعيات اقتصادية وسياسية كبيرة على كل من فرنسا والدول الأفريقية المعنية، موضحاً أن القارة السمراء تمثل شرياناً حيوياً للاقتصاد الفرنسي، حيث تعتمد فرنسا على القارة لتأمين أكثر من 20 % من احتياجاتها من اليورانيوم المستخدم في تشغيل مفاعلاتها النووية، لا سيما من النيجر. وبالتالي، فإن انسحاب القوات الفرنسية، قد يعقّد الجهود لتأمين هذه الإمدادات الحيوية، خاصة مع بروز قوى دولية منافسة (بما في ذلك تنامي النفوذ الصيني)، وفي ظل تراجع حصة فرنسا من التبادل التجاري مع أفريقيا جنوب الصحراء بشكل لافت.
ويوضح العيادي أن الانسحاب العسكري الفرنسي قد يؤثر في الدعم العسكري والأمني الذي تقدمه فرنسا للدول الأفريقية، وقد يؤدي هذا إلى تراجع دور فرنسا في حماية استثماراتها المباشرة في القارة (..)، غير أنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن تكاليف العمليات العسكرية الفرنسية، التي وصلت إلى مئات الملايين من اليوروهات سنوياً، يمكن أن يُعاد توجيهها أو التركيز على مناطق استراتيجية أخرى. إلا أن هذا الانسحاب يفتح المجال أمام قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة، ما قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في موازين القوى الدولية، وفق العيادي، الذي يرى أن المرحلة المقبلة تتطلب من فرنسا إعادة النظر في استراتيجيتها الأفريقية، لضمان استمرار مصالحها في مواجهة المنافسة المتزايدة من القوى العالمية الأخرى.