مقالات وآراء

عدن مدينة السلام

بقلم: عمر محمد العمودي

عدن نشوة المدن، ولذة البلدان. مدينة لا تُرى من نافذة ولا تُفهم من خلف شاشة. بل تُلمس من الشارع، ومن رائحة الحياة.
في أزقتها الضيقة اتّساع يحتضن كل عابر. بروحها المرحة تبذل ضحكتها للحزانى، كأنها تعرف أوجاعهم، وكأنها ولدت لتواسي.

عدن مدينة تمزح معك وتمزح معها دون أن يُساء تأويلك.
تُضحكك ولا تسألك من أنت، تفهمك قبل أن تتكلّم، وتستقبلك قبل أن تفسّر. لا تطلب جوازك، لا تسأل عن ديانتك ومعتقدك، لا يعينها انتماءك ولا فكرتك.. عدن لا تريد منك شيئًا إلا أن تكون أنت.

باصاتها الصغيرة تلك المنتديات المتحركة، يدور فيها كل شيء؛ النقاشات، الضحكات، الشكاوى، الحكايات.. امرأة تخبرك عن مشاغبات ابنها وكأنك خاله، رجل يُحدثك عن شغله وكأنك مديره، وآخر يستشيرك وكأنك محاميه.. وأنت تنصت، وتنسجم. لا لأنك تعرفهم، بل لأنك اكتشفت فجأة أنك تشبههم.
يقتسمون معك الرحلة حتى تنتهي، ثم يمضون دون أن يتقاسموا معك الأسماء والصفات.

عدن التواهي، اللؤلؤة التي صدأ بها الجمال فصار أبدع. كنائسها المهجورة الشاهدة على حياة مرت ولم تغادر..
آيسكريم الروتي طفلًا تجيئه وشيخًا تعود إليه..
ساعتها، جبالها، ضفافها، وسواحلها البعيدة جدًا عن التعب.
المعلا، خليط الأعراق، ودفء الاختلاف. الشارع الرئيسي يرحّب بك من الجهتين، العمائر مصفوفة كأنما تصلّي، والجدران متساوية لأن لا أحد أعلى من أحد.
زربيان لبيبه؛ الوجبة الوحيدة التي تجبرك على تغيير جدول يومك كله. الشرفات تتساقط في المعلا رغبة بالتحليق، لأنها لفرط ما ضحكت، ظنّت أن بإمكانها أن تطير.

كريتر، الأزقة الضيقة، البيوت العتيقة المبتسمة كل صباح. أحياء لا تكبر. العيدروس، القطيع، السبيل، القاضي الزعفران… الحارات المتلاصقة والمتماسكة كأنها لعبة “فتّحي يا وردة” وفي قلبها جولة يتصاعد منها الفل.
إنها كريتر، حيث تتجلّى الإرادة في رؤية زهرة على فوهة بركان!
الصهاريج العلامة التي تدل على أن عدن سالت من السماء ماء.
قلعة صيرة؛ الفكرة، البقاء على الحافة. أن تبقى صامد لا لأنك قويّ، بل لأنه لا خيار آخر.. سوى أن تطلّ على العالم وتنتظر.

الشيخ عثمان، الهاشمي فتاتها الجريئة، القاهرة خصر تدور عليه الرغبات. الحياة تسري من تحت مسجد النور، حيث الطريق هناك أقرب إلى الله. رائحة الحلوى، فوضى الأصوات، البسطات التي تنادي.. نداءات لا تُسمع، لكنها تصل.
خور مكسر دم المدينة. أكتوبر الحرية بصوت منفرد، ساحة العروض تجسيدها، الشابات حيث لا أحد يشيخ..
ساحل أبين حتى من لا يحب البحر يحبه.
المنصورة التي تتجدد كل صباح، كلما سكن الحياة العدم خرجت منه ترقص معلنة الوجود.
البريقة عبقرية العزلة في مدينة مزدحمة.
جبل شمسان، أب المدينة. حنون رغم مهابته، الحارس الصامت، السقف الذي نراه ونطمئن.

عدن، حيث يتزاحم الناس على الشاي من الفجر حتى الليل. يُرتشف من كرتون أو علبة حليب. تتلقفه من بين الأيادي فيسيل على الأكمام، ويلسع الأصابع، لكنك تنجو بنصف كوب يملأ مزاجك.
في عدن، تأكل مع من لا تعرف على مائدة من كرتون، لكنك تعرف أرواحهم، تعرف كيف تؤكل اللقمة بسعة صدر، دون دعوة، دون تكلّف.
تأكل من الموفى ومن الحجر، تمسك السمكة بيدك، تنتزع الشوك بأسنانك. لا تحتاج شوكة ولا ملعقة، تحتاج فقط أن تكون في مطعم الشراع.
عدن لا تتصنع، ولا تتنازل لترضي أحد، لكنها ترضي الجميع.
في عدن تغنّي فيردّدون معك، تصغي فيحدثونك، تتكلم فينصتون. تدخل شارع لأول مرة فتجد من يشعرك بأنك فيه منذ سنوات، وأنك لست غريبًا.

عدن الفن، في كلمات لطفي، في ترنّم أحمد قاسم، في بحة عزاني، في تكامل محمد سعد، وفي صوت أبوبكر.. حيث بدأ وأذهل العالم كله.
في عدن تمشي على ذاكرة، تمر من جوار سينما لا تعمل، وتتكئ على مسرح وأنت لا تعرف.. وتعبر من تحت طائرة، لا لأنك أعلى، بل لأنك على طريق الجسر.
في عدن لا تكون فردًا، بل جزءًا من مزاج المدينة.
تحزن معها، تضحك معها. ترتاح معها شتاء، تذوب صيفًا، تنهكك، تشويك، تتعبك. ولكنك لا تجرؤ على مغادرتها. ولا تفكر بالنجاة منها.
في عدن لا تحتاج إلى تبرير حزنك، ولا إلى تفسير ضحكتك.. لا لهجة لا اسم لا انتماء يقربك من عدن، يكفي أن تكون فيها، وهي تتكفّل بالباقي.

قالوا: “في عدن الهواء ملوّن” وصدقوا.
لأن ليس الهواء وحده.. كل شيء في عدن ملوّن؛ الغضب، الفرح، الابتسامة، الدهشة، والتعب.. حتى التعب نفسه في عدن يُحب.

لأنها عدن.. في نهاية الزمن، حين تبتذل الحياة، وتبلغ أقصى تفاهتها، حين يفقد الإنسان ثقته في المعنى، وتُغلق عليه طرق العودة إلى نفسه.. تنهض عدن كضرورة مؤجلة، لتسوقنا بنارها العادلة، لا إلى الفناء، بل كما كانت تفعل دومًا؛ إلى الله.

زر الذهاب إلى الأعلى