العملة كسلاح.. تزاوج السلطة بالمال وصراع الفساد العميق

بقلم /كمال صلاح الديني
يبدو أن ملف الإعاشة قد أصاب مكامن الفساد داخل منظومة الشرعية، بعدما كشف حجم الامتيازات غير المشروعة التي يتمتع بها النافذون منذ سنوات …
الإصلاحات التي أطلقها رئيس الوزراء سالم صالح بن بريك والهادفة إلى إعادة تنظيم النفقات وضبط الموارد وتعافي صرف العملة المحلية، لم تلقَ قبولاً لدى دوائر النفوذ التقليدية فجاء الرد سريعاً عبر استخدام أدوات الضغط المعتادة “المضاربة بالعملة” وإشعال سوق الصرف عبر مافيا الصرافين بما يؤدي إلى تأجيج الشارع وإرباك الحكومة …
المشهد يوحي بأن المرحلة المقبلة ستكون محمّلة بتحديات كبرى وأزمات أكثر حدّة، إذ يبرز صراع غير معلن بين رئيس الوزراء والقوى الممسكة بالقرار داخل الشرعية وإذا استمر هذا الصراع على ذات الوتيرة فقد ينتهي بمحاولة إزاحة سالم بن بريك من المشهد خصوصاً أن القوى المتضررة من خطواته الإصلاحية ما زالت تمتلك نفوذاً واسعاً في مفاصل الدولة المالية والإدارية …
غير أن الأبعاد الأعمق للأزمة تكشف عن علاقة وثيقة بين شبكات الصرافين وما يُعرف بـ”الدولة العميقة وتجار الحروب” فقد تحولت شركات الصرافة إلى أذرع مالية لتلك القوى تُستخدم لابتزاز الحكومات المتعاقبة والتحكم بمسارات الإقتصاد، والتلاعب بسعر الصرف لم يعد مجرد نشاط ربحي غير مشروع بل أصبح أداة سياسية تُستخدم لتمرير رسائل ضغط وإفشال أي محاولة إصلاح تهدد مصالح مراكز النفوذ وعلى رأسها مجموعات تجارية كبرى امتنعت عن خفض أسعار منتجاتها ووقفت في وجه أي مساعٍ لتصحيح السوق، إلى جانب قوى سياسية تقليدية اعتادت صناعة الأزمات وهنا يفتضح للعيان تزاوج السلطة بالمال كأخطر أداة لإبتلاع الدولة ومقدراتها…
حيث تتعمق الأزمة أكثر مع الدور السلبي للبنك المركزي بقيادة أحمد غالب المعبقي، الذي بدلاً من أن يمارس وظيفة الضبط والرقابة تحوّل إلى مؤسسة عاجزة عن اتخاذ إجراءات حقيقية للحد من المضاربة أو حماية استقرار السوق الأمر الذي جعل البنك نفسه جزءاً من المشكلة لا من الحل هذا العجز منح مافيا الصرافة مساحة أوسع للتحكم بمسار العملة، ورسّخ قناعة لدى الشارع بأن سياسات البنك المركزي تسير في إتجاه خدمة شبكات النفوذ أكثر من حماية المواطن …
لكن الأزمة لا تقتصر على الداخل وحده بل تمتد إلى حسابات إقليمية وسياسية أوسع فهناك من لا يرغب في أن يستعيد الجنوب عافيته الاقتصادية والإدارية، ويعمل على إبقاء حالة الانهيار قائمة بما يخدم تكريس صورة سلبية مغايرة، ومن شأن هذا المسار أن يمنح الحوثيين فرصة للظهور بمظهر رجال الدولة الأكثر تماسكاً وانضباطاً مقارنة بخصومهم خاصة بعد الضربة الموجعة التي تلقتها الجماعة بمقتل رئيس وزرائها وعدد من وزرائها…
من هنا يتضح أن معركة الإصلاح المالي والإداري لم تعد محصورة في بعدها الإقتصادي فقط، بل تحولت إلى معركة سياسية ترتبط مباشرة بمستقبل الجنوب ومكانته في أي تسوية سياسية قادمة فاستقرار الجنوب خاصة، والمناطق المحررة على وجه العموم بات هدفاً يُعرقل عن قصد، بينما يدفع المواطن الثمن الأكبر في ظل محاولات ممنهجة لإفقاره وتجريده من أبسط مقومات العيش الكريم وتحويل حياته اليومية إلى ورقة ابتزاز سياسي واقتصادي، ومع عجز الحكومة عن انتظام دفع الرواتب أو ضبط الأسعار واعتماد غالبية الأسر إما على تحويلات المغتربين أو على رواتب أبنائهم الجنود الذين يتقاضون مرتباتهم بالريال السعودي، تتضاعف الكارثة إذ لا يعود بمقدورهم مجاراة المتطلبات المعيشية المتزايدة في ظل التخبط المستمر للعملة وغياب أي حلول جادة لذلك…
ختاماً : إن ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة بل اختبار لمصير الدولة ذاتها فإما أن تنجح الإصلاحات في كسر قبضة الفساد وأذرع الدولة العميقة، وإما أن ينزلق الجنوب والمناطق المحررة إلى دائرة فوضى تتحكم بها شبكات المال والحرب….