مقالات وآراء

الاستعمار الاقتصادي الإمبريالي بين الاستنساخ والتهجين .

دراسة تحليلية في مسارات السيطرة الحديثة على العالم الثالث

بقلم / المستشار. م .بدر علي أحمد

المقدمة:

بمناسبة الذكرى المجيدة لعيد الجلاء، نتقدم بخالص التهاني إلى شعب الجنوب العربي الأبي وإلى أسر الشهداء الأبرار الذين ناضلوا بصدقٍ وشجاعةٍ في سبيل الحرية والسيادة الوطنية.
في الثلاثين من نوفمبر عام 1967، تحقق الاستقلال الكامل للجنوب العربي بعد كفاحٍ طويل ضد الاستعمار البريطاني الذي بسط هيمنته منذ عام 1839 حتى اندلاع الثورة التحررية في عام 1963، ليُعلن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.

تمثل هذه الذكرى محطةً خالدة في تاريخنا الوطني، إذ تخلّد تضحيات الشهداء والمناضلين الذين أسهموا في إنهاء حقبة الاستعمار، وافتتاح عصرٍ جديد من الحرية والاستقلال لشعب الجنوب العربي.

وإحياءً لهذه المناسبة الوطنية العظيمة، أُهدي هذا المقال التحليلي إلى أرواح شهداء الجنوب العربي الذين سطّروا بدمائهم الزكية تاريخ الكرامة والسيادة، سابقاً وحالياً وإلى كل من واصل دربهم من أجل استعادة الدولة وبسط راية الجنوب العربي خفّاقة في ميادين الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجامعة العربية.

أولاً:
الاستعمار بين الجغرافيا والسيطرة البنيوية

منذ بواكير تمدده في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، لم يكن الاستعمار الكلاسيكي مشروعًا احتلاليًا محدودًا بالحدود الجغرافية، بل كان منظومة شاملة تستهدف إعادة تشكيل الكيانات السياسية والاجتماعية بما يخدم مصالح القوى الاستعمارية.

ولم يكن تقسيم الدول إلى دويلاتٍ متناحرة عملًا عشوائيًا، بل نتاج رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تفكيك البنى الوطنية الجامعة، كما حدث في الهند إبّان الاستعمار البريطاني، ثم ما تجلّى لاحقًا في اتفاقية سايكس – بيكو التي أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط على نحوٍ يخدم مصالح القوى الإمبريالية.

هذه السياسة لم تتوقف عند حدود القرن العشرين، بل امتدت بأساليب جديدة أكثر دهاءً، تقوم على تفتيت المقسم من داخل الدولة نفسها، على أسس طائفية ومذهبية وإثنية.

وقد تجلت ملامح هذا المشروع في أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا، وما زالت آثاره تتسع لتشمل مناطق أخرى مثل ليبيا واليمن وشمال السودان، في إطار ما سُمّي بـ “مشروع الشرق الأوسط الجديد”.

ثانيًا:
الاستنساخ البشري السياسي كآلية للهيمنة

قبل أن تغادر القوى الاستعمارية أوطاننا شكليًا، كانت قد تركت وراءها شبكات من الوكلاء والعملاء المحليين، شكّلوا ما يمكن تسميته بـ البذور البشرية القابلة للاستنساخ.
هذه البذور نمت عبر الأجيال لتنتج نُخبًا سياسية واقتصادية وثقافية ترتبط وظيفيًا بالمركز الإمبريالي، وتعمل على إعادة إنتاج التبعية ضمن منظومات الدولة الحديثة.
بهذا المعنى، لم يرحل الاستعمار فعليًا، بل توارى خلف ستار الدولة الوطنية، مستخدمًا أدواتٍ بشرية محلية لتنفيذ أجنداته عبر الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم.

ثالثًا:
التهجين الاقتصادي والتبعية المقنّعة

بعد أن أُغلقت أبواب الاحتلال العسكري المباشر، عاد الاستعمار الحديث من نافذة الاقتصاد والتجارة، مستثمرًا أدوات “العولمة” والشركات العابرة للقارات كوسائلٍ للهيمنة غير المباشرة.
فبدأ بتصدير البذور الزراعية المهجّنة والعقيمة، التي لا يمكن إعادة إنتاجها محليًا، ليُبقي دول الجنوب في حالة عجزٍ دائم عن تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، ويجعلها رهينة لاحتكار موارده وأسواقه.

ولم يقتصر هذا النهج على الزراعة فحسب، بل امتد إلى الصناعة والتكنولوجيا والدواء، بل وحتى إلى تصنيع الأوبئة والجراثيم كوسائل اقتصادية وجيوسياسية.
لقد تحولت فلسفة الشركات الإمبريالية الكبرى إلى رؤية تعتبر الإنسان ذاته سلعةً اقتصادية، يمكن تسعيرها واستغلالها وفق منطق السوق، ضمن ما يعرف بـ “الاستعمار الاقتصادي للإنسان”.

رابعًا:
ما بعد الاستقلال – التبعية كوجهٍ جديدٍ للاستعمار

إنّ مفهوم الاستقلال الوطني لا يكتمل بخروج الجيوش الأجنبية من الأرض، بل بتحرر الدولة من شبكات التبعية الاقتصادية والسياسية التي خلفها الاستعمار وراءه.
لقد أُعيد إنتاج أدوات السيطرة من خلال النخب المحلية الموالية، والمؤسسات الاقتصادية المرتبطة بالخارج، ما جعل السيادة الوطنية شكلية في كثير من الأحيان.
هذه البذور البشرية التي زُرعت في عمق المجتمع باتت أشجارًا سامة تُثمر خيانةً وفسادًا وتبعية، وتُجهض أي مشروع وطني للاستقلال الحقيقي.

الخاتمة

إنّ التحرر الشامل لا يتحقق برفع العلم أو إعلان الجمهورية، بل بامتلاك القرار الوطني المستقل، وتطهير مؤسسات الدولة من رواسب الاستعمار المتجددة، سواء كانت في الفكر أو الاقتصاد أو الولاء السياسي.
فالاستعمار الحديث بات أكثر خفاءً، وأكثر قدرةً على التخفي في شكل استثمارٍ أو شراكةٍ اقتصادية أو حتى عملٍ إنساني.
ومن هنا، فإن مسؤوليتنا التاريخية تقتضي كشف هذه البذور البشرية والاقتصادية المزروعة في أوطاننا، واقتلاعها من جذورها، حتى لا نظل أسرى بعباءة الحرية الزائفة، ولا تابعين في عالمٍ تُرسم فيه مصائر الشعوب بيد قوى الهيمنة العالمية.

أ . م . بدرمقبل

زر الذهاب إلى الأعلى