آداب وفنون

“مُهرّج غزة” قصة حقيقية تحدّت نيران القصف بالابتسامة

كريترنيوز /القاهرة الإخبارية – إيمان بسطاوي

قوة عظيمة حيث تواجه الموت بالضحك، واليأس بالأمل، هذا ما صنعه “بلياتشو غزة” أو “مهرّج غزة”، الذي تحولت قصته إلى فيلم وثائقي صاغه المخرج والفنان الفلسطيني عبدالرحمن صباح، حين التقطت عينه حكاية علاء مقداد، الشهير بشخصية المهرج “عمو علوش”، شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، قصير القامة لكنه عظيم الروح.

حوّل “علوش” فن التهريج إلى وسيلة لتضميد جراح الأطفال، الذين فقدوا بيوتهم وذويهم، فصار رمزًا للأمل في خضم المأساة، وصوتًا للضحك في وجه القهر، متنقّلًا بين مخيمات الإيواء ليرسم البسمة على وجوه أنهكتها الحرب.

وفي حواره مع موقع “القاهرة الإخبارية”، يقول مخرج العمل الفلسطيني عبدالرحمن صباح، إن الفيلم يوثق رحلة “علوش” منذ نزوحه الأول من منزله في مخيم الشاطئ نتيجة القصف العنيف، مرورًا بإقامته المؤقتة في مستشفى الشفاء التي تحولت لاحقًا إلى بؤرة خطر، وصولًا لنزوحه جنوبًا عبر ما يُعرف بـ”الممر الآمن”.

وفي كل محطة من هذه الرحلة، يفقد “علوش” أدواته وأغراضه الشخصية والفنية التي كانت جزءًا من هويته، لكنه يصرّ على إعادة بناء نفسه من الصفر، متمسكًا بإيمانه بأن الفرح أصدق أشكال المقاومة.

يُعيد الفيلم تعريف مفهوم القوة البشرية، ليبرز قدرة الإنسان على مواجهة الموت بالضحك، مؤكدًا أن الأمل ليس رفاهية، بل فعل وجودي في مواجهة العدم.

المهرّج الإنسان
يعيش “علوش” وسط خيم اللجوء مع أسرته الصغيرة، التي تتقاسم معه المعاناة اليومية ذاتها، فهو المُعيل الوحيد لوالديه و5 شقيقات، ثلاث منهن من قصار القامة مثله، إلى جانب زوجته وطفليه، يكافح يوميًا لتأمين لقمة العيش والماء لعائلته، تحت خيمة بالكاد تحميهم من قسوة الطقس والحرب، ومع ذلك يصرّ على الخروج يوميًا لينشر الفرح في وجوه الأطفال.

يقول عبدالرحمن صباح، إن فكرة الفيلم خرجت من عمق الحياة اليومية في غزة، من بين الخيام والركام والوجوه المنهكة، مضيفًا: “لم أبحث عن قصته، هي التي وجدتني، كان علوش يمرّ أمام الكاميرا لا كمهرّج فقط، بل كإنسان يقاوم بطريقته الخاصة”.

وتابع: “الرسالة ببساطة أن الإنسان يمكن أن يكون ضوءًا للآخرين حتى في أحلك العتمات، أردت أن أقول إن الفرح في غزة ليس ترفًا، بل شكل من أشكال المقاومة والصمود تحت وطأة الحرب والموت، هذا الفيلم دعوة لأن يرى العالم غزة بعيون مختلفة، لا كأرقام لجثث أو أخبار عابرة على شاشات الفضائيات”.

التحديات
يروي “صباح” أن التحديات في أثناء التصوير لم تكن تقنية فحسب، بل إنسانية بالدرجة الأولى، موضحًا: “كيف توثق الألم دون أن تؤذى؟ كيف تصوّر الحياة وسط الموت؟”.

وأكد أن فريق العمل واجه نقصًا حادًا في المعدات، وانقطاعات متكررة في الكهرباء والإنترنت، ما اضطرهم إلى التصوير بالكاميرات المحمولة أو حتى الهواتف، موضحًا أن التحدي الأكبر تمثل في الحفاظ على الإحساس الإنساني وسط مشاهد القصف والنزوح، وأن تبقى روح الفريق حيّة رغم الموت المحيط بهم.

كما يصف عبدالرحمن صباح، المخرج رشيد مشهراوي، بأنه “الأب الروحي للمشروع”، إذ واكب مراحل العمل كلها عن بُعد، رغم انقطاع الاتصالات المتكرر، قائلًا: “كان رشيد يرسل لنا ملاحظاته وتوجيهاته عبر الإنترنت كلما سنحت الفرصة، وحين تنقطع الشبكة كان يعود برسالة قصيرة تبعث فينا الأمل. لم يكن مجرد مخرج مشرف، بل كان مرشدًا إنسانيًا يؤمن أن السينما قادرة على خلق الحياة حتى في قلب الحرب”.

هذا الإيمان انعكس على طاقم الفيلم، الذي واصل العمل بروح عالية رغم الخطر المحيط بهم من كل جانب.

السينما مقاومة
وعن الدافع للاستمرار في صناعة الأفلام رغم الاستهداف والتشريد والخطر، يقول صباح: “نحن نصنع الأفلام لأننا نريد أن نحيا، لأن الحكاية الشيء الوحيد الذي لا يمكن قصفه. في واقع يحاول أن يمحو الصورة والذاكرة، نحمل الكاميرا كنوع من المقاومة، ليس حبًا في السينما فقط، بل دفاعًا عن الوجود نفسه”.

ويضيف: “حين ترى طفلًا فقد بيته وعائلته يضحك وهو يشاهد علوش، تدرك أن السينما هنا ليست ترفًا ثقافيًا، بل وسيلة نجاة وتفريغ نفسي. قد لا نملك طائرات أو منصات ضخمة، لكننا نملك الحكاية، والحكاية في فلسطين لا تموت أبدًا”.

مشروع “من المسافة صفر”
يُثني المخرج على دور رشيد مشهراوي في دعم الأصوات السينمائية داخل غزة، خلال الحرب عبر مشروعيه “من المسافة صفر” وامتداده “جراند زيرو”، اللذين وفّرا منصة حقيقية لصنّاع الأفلام لتوثيق الواقع بأدوات بسيطة.

ورغم ندرة المعدات وانعدام أبسط أدوات الإنتاج، تمكّن المخرجون من تصوير أفلامهم بإيمان عميق بقدرة الصورة على المقاومة، متنقلين بين الركام والملاجئ بحثًا عن مشهد يروي الحقيقة.

كواليس التصوير
يقول صباح إن كل لحظة تصوير كانت معركة بحد ذاتها، موضحًا: “كنا نصوّر على وقع القصف، نحتمي بجدار مهدّم أو بخيمة هشة ونواصل العمل لأننا نؤمن أن ما نفعله أهم من الخوف نفسه. الأصعب لم يكن الخطر فقط، بل الشعور أنك توثّق حياة قد لا تستمر في الغد. كل لقطة كنا نخاف أن تكون الأخيرة لصاحبها”.

ومن المواقف التي لا تُنسى، يحكي صباح أنه “لا ينسى اليوم الذي قرر فيه علوش أن يُضحك الأطفال في أحد المخيمات رغم اقتراب صوت القصف، مضيفًا: “كان الأطفال خائفين، لكنه بدأ العرض ليغني ويرقص، ومع أول ضحكة خرجت من طفل صغير شعرنا أن الحياة استعادت نبضها، عندها أدركت أن الفيلم ليس عن الحرب، بل عن الذين يصرّون على العيش رغمها”.

ويضيف عن مشهد مؤثر آخر: “عندما صوّرنا داخل خيمة علوش الضيقة التي تضم عائلته، رأيته يصلح أنفه الأحمر المكسور بقطعة لاصقة مهترئة حتى لا يراه الأطفال حزينًا، في تلك اللحظة شعرت أنني لا أصور فيلمًا بل ألتقط وجعه”.

عبد الرحمن صباح
رحلة العودة
من أكثر المواقف التي أثرت في المخرج كانت لحظة إعلان الهدنة والسماح للنازحين بالعودة إلى الشمال، إذ يقول صباح: “قرر علوش وعائلته العودة من الجنوب إلى مخيم الشاطئ، خرجنا في الصباح الباكر لتوثيق تلك الرحلة، لكن التدافع البشري الهائل فرّقنا عن بعضنا، اختفى المصور وعلوش وعائلته، وبقيت وحيدًا أبحث في وجوه الناس وسط الزحام. حاولت الاتصال دون جدوى حتى نفدت بطارية هاتفي”.

يضيف: “واصلت السير مع الناس حتى وصلت دوّار النابلسي، صعدت فوق ركام بناية لأبحث عنهم من الأعلى، بلا جدوى، بعد ساعتين من الانتظار، ظهرت شقيقة علوش، ثم اجتمعت العائلة تباعًا، قررت أن أودّعهم وهم يتجهون إلى المخيم، أراقبهم حتى اختفوا بين الحشود، عدت إلى الجنوب محطمًا من التعب والحزن، أمشي عكس التيار البشري العائد، أراقب وجوه الناس المرهقة لكنها سعيدة بالعودة، كانت رحلة استمرت من السادسة صباحًا حتى السادسة مساءً”.

ويتابع: “حين عدت إلى مكان نزوحنا نمت من شدة الإنهاك، وبعد ساعات قليلة استيقظت لأجد زميلي المخرج محمد الشريف يخبرني أنه التقى علوش وعائلته وصوّر لهم بعض المشاهد المؤثرة في أثناء تفرّقهم وبحثهم عن بعضهم البعض. كانت تلك اللقطات القليلة كافية لتلخيص معاناة الطريق وصدق اللحظة”.

لماذا “علوش”؟
يقول عبدالرحمن صباح إنه اختار علاء مقداد لأنه رأى فيه نموذج الإنسان الفلسطيني الحقيقي: “علوش ليس مجرد شخصية مميزة بصريًا، بل حالة إنسانية نادرة. رجل قصير الجسد، لكن روحه أطول من الحرب. رأيت فيه البساطة والنقاء والإصرار على الحياة، فقررت أن أقدمه للعالم لا كـ”قزم” بل كـ”عملاق”، رمزًا للقوة في زمن الانكسار”.

كما يختم المخرج حديثه قائلًا: “فيلم بلياتشو غزة لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل تجربة روحية عشتها بكل تفاصيلها. أدركت أن الفن في غزة لا يُصنع بالكاميرات فقط، بل بالصبر والجرأة والإيمان. فالضحكة أحيانًا أقوى من القذيفة، تسافر بعيدًا لتعيد الحياة إلى قلوب أنهكتها الحرب”.

زر الذهاب إلى الأعلى