لغز استمر أسابيع في 1883.. السماء حمراء والقمر أزرق والشمس خضراء

كريترنيوز/ متابعات /السيد محمود المتولي
شهد العالم في أغسطس 1883 ظاهرة نادرة وغير مسبوقة، حيث تحوّلت السماء إلى اللون الأحمر، وظهر القمر باللون الأزرق، وغابت الشمس في وهج أخضر، بعد ثوران بركان كراكاتوا في إندونيسيا.
وأثار الانفجار، الذي يعدّ من أقوى الثورات البركانية المسجّلة، موجة من الهباء الجوي والرماد إلى ارتفاعات تصل إلى 30 كيلومتراً في الغلاف الجوي، ما أدّى إلى تغيّر ألوان السماء حول العالم لأسابيع متتالية.
وكشفت دراسة حديثة نشرت عام 2024 أن هذه الظاهرة كانت نتيجة طبيعية لتشتت الضوء عبر الجسيمات البركانية، مؤكدة أن ما رآه الناس لم يكن مجرد وهم بصري، بل حدثاً واقعيّاً على نطاق كوكبي.
سماء مشتعلة: العواقب المباشرة
في تقرير لافت من صحيفة نيويورك تايمز ، نُشر في نوفمبر 1883، وصف أحد الشهود مشهدًا أشبه بسماء مشتعلة: “بعد الساعة الخامسة بقليل، اشتعل الأفق الغربي فجأةً بلون قرمزي لامع، أضاء السماء والغيوم. صُدم الناس في الشوارع من هذا المنظر غير المألوف… ازدادت الغيوم تدريجياً إلى لون أحمر دموي، وظهرت حمرة دموية على سطح البحر”.
لم يكن هذا شفقًا عادياً
لم يكن هذا شفقًا عادياً، يعلم العلماء أن الهباء الجوي الستراتوسفيري، الذي تدفعه تيارات الهواء الاستوائية يكسر ضوء الشمس بطريقة تؤدي إلى تشتت الأطوال الموجية الأقصر (الضوء الأزرق والأخضر)، مما يسمح للأطوال الموجية الحمراء الأطول بالهيمنة. وبما أن هذه الجسيمات ظلت عالقة في الغلاف الجوي لأشهر، فقد أفادت مناطق بعيدة مثل لندن ونيويورك وسيدني وكيب تاون بتوهج سماء حمراء لفترة طويلة بعد غروب الشمس، تمتد أحيانًا عبر نصف الليل. في عصر ما قبل الإضاءة الكهربائية، كان هذا التأثير ليكون أكثر إرباكاً وإبهاراً- عرض طبيعي ساحق يوحي بأن شيئًا ما قد حدث بشكل كارثي.
بينما قد يكون احمرار السماء مفهومًا للمراقب المعاصر، إلا أن التحول الغريب في لون القمر أصعب فهماً، ومع ذلك فقد شوهد في جميع أنحاء العالم، لأسابيع، بلون أزرق فولاذي غريب، مما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الغلاف الجوي للأرض يمر بتحول كوني.
ولكن، عرف الباحثون أن هذه الظاهرة ناجمة عن تشتت الضوء عبر جسيمات بركانية ذات حجم مناسب تمامًا، حوالي ميكرون واحد في القطر، هذه الجسيمات كبيرة بما يكفي لتشتيت الضوء الأحمر مع السماح بمرور الضوء الأزرق، مما يخلق لوناً غير طبيعي لا يمكن أن ينتجه إلا نطاق ضيق من الهباء الجوي.
غروب الشمس الأخضر
كان غروب الشمس الأخضر المرصود من أجزاء من نصف الكرة الشمالي أغرب من ذلك، في حالات نادرة، أدى تفاعل الضوء الأحمر المتناثر مع سحب رقيقة من الضباب البركاني إلى انكسار ضوء الشمس إلى وهج أخضر باهت غريب قبيل الغسق – وهو مشهد طبيعي يقتصر عادةً على “الوميض الأخضر” النادر والمراوغ فوق المحيطات.
لكن هذا لم يكن وميضاً لقد كان مستداماً ومنتشراً ومختلفاً تماماً عن أي شيء شوهد من قبل أو منذ ذلك الحين. إن حقيقة تسجيل مثل هذه الملاحظات المتسقة عبر القارات لا تثبت صحتها فحسب، بل توفر أيضاً للعلماء المعاصرين بيانات قيّمة حول كيفية تقاطع كثافة الهباء الجوي وزاوية ضوء الشمس والارتفاع لتشكيل البيئة البصرية.
لماذا لا يزال إرث كراكاتوا البصري مهمًا؟
ما ميّز ثوران كراكاتوا عن غيره لم يقتصر على عنفه أو عدد ضحاياه فحسب، بل امتدّ ليشمل طبقة الستراتوسفير، حيث يشير تحليل نُشر عام2024 في مجلة الكيمياء والفيزياء الجوية إلى مجموعة من العوامل التي سمحت للجسيمات بالبقاء معلقةً لفترة أطول من المعتاد وتوزيعها بالتساوي حول العالم.
كما ساهم موقعها الاستوائي في انتشارها في نصفي الكرة الأرضية، مما سمح لكلٍّ من خطوط العرض الشمالية والجنوبية بتجربة التشوهات الضوئية نفسها، ويُعد هذا عاملاً أساسياً في فهم حلقات التغذية الراجعة المناخية والبصرية التي تعقب الثورات البركانية الكبرى.
لم يعد توهج كراكاتوا مجرد ظاهرة تاريخية، بل أصبح مرجعاً أساسياً في علم الغلاف الجوي، حيث يوضّح تأثير الهباء البركاني على الإشعاع الشمسي، ودرجات الحرارة، وأنماط الأمطار، مع زيادة حساسية المناخ للصدمات، بات فهم تفاعل الجسيمات مع الضوء ضرورياً للتنبؤ بالمستقبل، ويظل الثوران نموذجاً قيماً للشذوذ البصري والآثار المناخية.