محمد وابنته بهجة.. عندما تتكلم لغة القلوب بصوت أعلى من ضجيج العالم
كريترنيوز /صحيفة شقائق / تقرير
في رحاب محافظة أبين، وتحديدًا في مديرية مودية، حيث تتخللها أشجار السمر الشامخة، تعيش عائلة الأستاذ محمد صائل مقط، قصة تجسّد أسمى معاني الحبّ في ظلّ ظروفٍ معيشيةٍ صعبة وتحدّيات جمة.
محمد، رجلٌ بدويٌّ بسيطٌ، اعتاد على قسوة الحياة وشظف العيش، قضى سنواتٍ من عمره يُعلّم أبناء قريته أصول القراءة والكتابة، قبل أن يُحيلَه التقاعد إلى راحةٍ لم يُعرفها يومًا، راتبٌ زهيدٌ لا يتجاوز 137 ألف ريال يمني، هو كلّ ما يملكُهُ هذا الرجلُ المُتعَبُ لإعالة أسرته، أربعة أفواهٍ تنتظرُ منهُ لقمةَ العيشِ، في زمنٍ غدت فيهِ لقمةُ العيشِ حلماً بعيدَ المنال.
زوجتهُ امرأةٌ صبورةٌ، وقفت إلى جانبهِ سندًا وعونًا، تشاركهُ همومَ الحياةِ وقسوتها، تُعينُهُ على تدبيرِ شؤونِ المنزلِ، تُعلّمُ بناتها فنونَ الطهيِ والخياطةِ، تُحضّرُهنّ لمواجهةِ صعوباتِ الحياةِ، وترسمُ على وجوههنّ بسمةَ الأملِ والتفاؤلِ.
ولكنّ القدرَ اختارَ أن يُلقيَ على عاتقِ هذهِ العائلةِ عبئًا إضافيًا، فإحدى بناته، بهجة، وُلدتْ صمّاءَ بكماءَ، لغةٌ جديدةٌ تعلّمَتها العائلةُ، لغةُ الإشارةِ، لغةُ العيونِ التي تتحدّثُ بصمتٍ، لغةُ القلوبِ التي تتواصلُ دونَ كلماتٍ.
كبرتْ بهجةُ وسطَ عائلتها، تعلّمتْ من أمّها فنونَ نقشِ الحنّاءِ، وأصبحتْ تُساهمُ في دخلِ الأسرةِ البسيطِ، يداها الصغيرتانِ تُبدعانِ في رسمِ الزخارفِ والنقوشِ على أياديِ النساءِ، كأنّها تُحاولُ أن تُعبّرَ عن مشاعرها التي لا تستطيعُ النطقَ بها.. كل نقشة ترسمها بهجة تحمل بين طياتها حكاية صامتة، حكاية أمل وتحدٍّ، حكاية فتاة اختارت أن تتحدى إعاقتها، وأن تُثبت للعالم أنّها قادرة على العطاء والإنتاج.
اللقاء المقلق.. عرض الزواج الذي أشعل قلب الأب:
قبل أيام جاء إلى محمد، الأستاذ الخضر الحداد، حاملاً عرضًا لزواج ابنته بهجة، تلك الفتاة الصماء والبكماء التي لطالما كانت نور عينيه وبهجة حياته. العرض كان مغريًا: رجل ميسور الحال، طيب الأخلاق، وله زوجتان، بالنسبة لأي أب، كان هذا العرض يبدو مثاليًا، ولكن بالنسبة للأستاذ محمد، كان قرارًا محفوفًا بالمخاوف، كيف يمكن أن يطمئن على سعادة ابنته، وهي التي تحتاج إلى من يفهم لغتها الصامتة؟
القلق لم يكن حول مادية العرض أو وضع الرجل الاجتماعي، بل كان حول ما إذا كانت بهجة ستكون سعيدة حقًا بهذا الزواج. قرر أن يستشير ابنته، لأن القرار في نهاية المطاف يعود إليها، بهجة لم تكن مجرد ابنة، بل كانت قطعة من روحه، تحمل في ملامحها صبر وجمال الصمت العميق.
قرار صعب وحديث الأب وابنته بلغة الصمت:
في جلسة هادئة، جلس الأستاذ محمد مع ابنته بهجة ليحدثها عن العرض، بلغة الإشارة التي أصبحت وسيلتهما الوحيدة للتواصل، بدأ يخبرها عن الرجل وعن الحياة التي قد تنتظرها، “باتتزوجين وباترتاحين وباتلاقين عناية وتغذية مليحة”، كانت الكلمات تخرج من يديه ببطء وحذر، وكأنها تخشى أن تجرح مشاعر ابنته، توقع أن ترى الفرح في عينيها، ولكن ما رآه كان الصمت والاضطراب.
حاول أن يقرأ في عينيها ما قد يكون القرار الذي تتخذه، لكنه لم يجد سوى نظرة غامضة لم تعبر عن شيء، شعر حينها بأنه قد يكون دفع ابنته إلى زاوية لا مفر منها، تركها لتفكر في الأمر، معتقدًا أنها تحتاج إلى وقت، ولكن ما حدث بعد ذلك لم يكن متوقعًا.
اللحظة الحاسمة واعتراف الحب الصامت:
عندما عاد محمد إلى غرفة ابنته بعد ساعات، تفاجأ بأنها لم تتناول طعامها، كانت جالسة بصمت، ووجهها يحمل تعبيرًا من الحزن العميق، اقترب منها بقلق، متسائلًا عما إذا كانت قد اتخذت قرارها، ولم يكن يتوقع أن يرى في عينيها تلك الدموع التي عجزت عن التعبير بالكلمات.
بلغة الإشارة، بدأت بهجة تتحدث إليه، لكن هذه المرة لم تكن الكلمات هي ما نقلته، بل كانت مشاعر حب لا يوصف، “يابااااه، انفداك خلني عندكم بدون زواج، وأنا من هذا اليوم سأكتفي بوجبة واحدة من الطعام”، كانت تلك الكلمات بمثابة صاعقة ضربت قلب محمد، كيف يمكن لأب أن يطلب من ابنته التضحية بحياتها من أجله؟ كيف يمكن لها أن تختار البقاء بجانبه، وهي تعلم أن الحياة قد تكون لها أكثر من مجرد العيش في كنف والديها؟
شعر محمد بأن الدنيا أظلمت أمامه، وعيناه ملأتهما الدموع، في تلك اللحظة، أدرك أن الحب الذي تكنه بهجة له ولعائلتها كان أكبر من أي شيء آخر، حاول أن يعتذر لها، أن يقبل رأسها ويديها، لكنها منعته من ذلك، وكأنها تريد أن تقول له: “أنا هنا، لأجلك، وسأبقى دائمًا هنا”.
العودة إلى الحياة:
بعد تلك اللحظة المؤثرة، عادت بهجة إلى تناول طعامها، لكنها لم تكن تلك الفتاة نفسها التي عرفها والدها، فقد كانت تحمل في قلبها عبئًا كبيرًا، عبء القرار الذي اتخذته بأن تبقى بجوار والدها وأخواتها، رغم أن الحياة قد تحمل لها فرصًا أخرى.
في الليلة نفسها، أرسلت بهجة رسالة إلى والدها عبر هاتفها، رسالة لم تكن مليئة بالكلمات بل بالعواطف، “سامحني يابااااه قهرتك انفداك بعمري”، كانت تلك الكلمات تعبيرًا عن حبها العميق واعتذارها عن الألم الذي سببته له، لكن والدها محمد كان يعلم جيدًا أن هذا القرار لم يكن سهلًا عليها، وأنها اختارت التضحية لأجله، ولأجل الأسرة.
محمد، الذي يعيش حياة بسيطة كمعلم متقاعد، يجد في معاشه البسيط ما يكفيه ويكفي أسرته، بهجة، التي تجيد نقش الحناء بفن وإبداع، تعمل بجد لتكسب قوت يومها، رغم أن الحياة قد فرضت عليها قيودًا جسدية، إلا أنها لم تستسلم، بل قاومت ووجدت لنفسها مكانًا في هذا العالم.
الأسرة التي تتحدى الصعاب:
الشيخ محمد ليس وحيدًا في هذه الرحلة، لديه بنات أخريات، كل منهن تحمل موهبة تسهم في تحسين حياة الأسرة، أسوان وأشجان، على سبيل المثال، تعملان في الخياطة والتطريز، وقد حصلتا على دعم من الأخ محمد بن صالح أبو عبدالرحمن النقيب اليافعي، الذي قدم لهما ماكينة خياطة حديثة وأدوات تطريز متميزة، بفضل هذا الدعم، أصبحتا قادرتين على إنتاج خمس جلابيات يوميًا، وكل جلابية تحمل في طياتها حكاية من العزيمة والإصرار.
أما أم الحسين، زوجة محمد، فهي تعمل على طحن الحناء، في حين أن أم ريحان تصنع البخور، تلك الحرفة التي ورثتها عن أجدادها، وفي كل يوم تجتمع العائلة حول موقد صغير، تتبادل فيه الضحكات والحكايات، وتنسج فيه أحلامًا لمستقبل أفضل.
رغم أن الحياة قد ألقت بهم في وسط البادية، حيث الزهد والتقشف، إلا أنهم استطاعوا أن يجدوا في هذه الحياة معنى حقيقيًا للسعادة. محمد دائمًا ما يذكر مقولة البدو: “كثروا من الحرف تنجوا من الفقر”، وهذا ما طبقته أسرته بحذافيره، حيث تمكنوا بفضل تعاونهم وعملهم الدؤوب من بناء حياة كريمة ومكتفية ذاتيًا.
من أب إلى كل الآباء:
رسالة والد بهجة كانت واضحة، هو أب عاش مع أولاده المعاقين، تعلم منهم معنى الحب الحقيقي والصبر، واكتشف فيهم روحًا تتحدى الظروف، رسالة إلى كل أب وأم يعيشان تجربة مشابهة، يدعوهما فيها لرعاية مشاعر أولادهما، لأنهم في النهاية هم من يعطون للحياة معنى وقيمة.
“هل دعاك الهوى يوما كما ما دعاني.. وهل أعجبك يوم في شعري غزير المعاني”، بهذه الأبيات الشعرية يختتم الأستاذ محمد حكايته مع ابنته بهجة، يعدها برحلة من مدينة مودية إلى قريتهم في واحات البادية والجبال السود، تلك الأرض التي كانت يومًا ما مهدًا لأحلامه وشبابه. في تلك الرحلة، سيستعيد ذكرياته مع رعي الأغنام على حافة الوادي، وسيحكي لابنته عن أيامه الخوالي، حينما كانت السماء صافية والنجوم تضيء ليل البادية.
الحب الذي لا يعرف الحدود:
بهجة الروح والخاطر، الفتاة التي كانت سببًا في دموع أبيها وفرحته، تعيش اليوم بين أحضان أسرتها التي تحبها وتحترمها، رسالتها إلى الجميع كانت مليئة بالحب والاعتذار، فمهما كان لم يكن قصدها أبدًا أن تسبب الألم لأحد، والدها الأستاذ محمد يعتذر هو الآخر، يطلب من الجميع أن يسامحوه إن تسبب في إيلامهم بقصته، ولكنه في الوقت ذاته يوضح أنه لم يكن يسعى لاستدرار الشفقة أو الدعم، بل كان يرغب فقط في توصيل رسالة سامية كأب لأربعة أولاد معاقين.
في نهاية المطاف، يختتم محمد قصته بابتسامة ودمعة، وهو يعلم جيدًا أن الدنيا لم تعد تهمه كما كانت في شبابه، فهو اليوم يعيش حياته ببساطة وزهد، وقد تعلم من أولاده الصم والبكم معنى الرحمة والحب.